إستحضار الصور
قصة قصيرة // بقلم عصري فياض
تظهر على وجهه تجاعيد الشيخوخة وكأنها تشققات ارض جفت عنها المياه منذ زمن، وينشر الشعر الأبيض على مساحة ذقنه بكثافة ، وتعلوا جبهته خارطة التشائم المزمن، وأضحت ظاهرة تكتيف يده للخلف علامة فارقة ...
هذه هي صورة وجه الحاج عبد الله القاطن في مخيم خانيونس والذي تجاوز الثمانين من عمره،والذي خرج لتوه من أزقة المخيم بخطوات متثاقلة نحو البحر في ترحاله اليومي ليط على الشاطيء،يستمتع بالصمت الذي أدمن عليه، وبالتمعن في خطوط الموج المتلاحق والقادم من عمق البحر ،يقرا بعينيه هذه الترجمة المنسابة لحركة الريح بحروف الكتل الموجية التي لا تنتهي ...
إقتربت الشمس من ملامسة سطح البحر البعيد،وقد أخفى شفقها الاحمر بعض حروف الترجمة ،وكأنها تقول له.. إنتهت هذه الحلقة لهذا اليوم ،فلملم قواه وإنتصب وهَمَّ بالعودة،وقبل ان يودع جليسه بنظرة أخيرة،حدق بما تبقى لديه من نظر وإدراك...إن هناك كتلا سوداء قد ظهرت فجأة في عمق الماء ... حدق أكثر ... إنها بوارج تمخر عباب البحر وتتجه بسرعة إلى الشاطىء... إن في الامر شيء...لم تات هذه لصيد الأسماك... قال في نفسه..عجَّل خطاه ،وقفل عائدا إلى المخيم ... خطوات تأكل الرمل ببطء وتثاقل،المسافة إلى المخيم تبدو بعيدا جدا .... سقطت على مسامعه دبدبات قوية من السماء ... رفع عينيه ... إنها طائرات عمودية ... لمعت السماء ،وخرج البرق من البحر ..ودوى الرعد وعلا الصراخ..
لحظات عصيبة ...عجَّل الحاج عبدالله خطواته بأقصى إستطاعة ...تعرقل وسقط ... وشعر بالم شديد في احدى قدميه،وبقي ممددا يئن ويستغيث حتى مرت سيارة الإسعاف ،فحملته وإنطلقت
*************************
أمضى في مسفى الشفاء اياما ،ونظرا لتزايد عدد الجرحى بشكل يومي ،عجَّلَ الأطباء في تسريحه من المشفى على ان يتابع العلاج في البيت ودائرة صحة الوكالة في مخيم خانيونس..فحضر انجاله وبعض أحفاده وحملوه إلى البيت،وكان لابد من سلسلة التنقل من المشفى إلى شاطيء البحر..وضع في قاربتسنده فرشة خفيفة،متوسدا بعض ملابسه،وسار القارب تدفعه مجاذيف ذويه...
أحيا هذا الموقف أحزانا دفينة ،وجز هذا المشرط الحاد مخزونه العميق من الذكريات الماضية التي تشبه اليوم... بالامس البعيد،نقلتنا سفينة صغيرة وقوارب صيد هربا من يافا إلى قطاع غزة ..لا زلت أذكر جيدا كيف إنكفا القارب الصغير بعائلة الحاج عطية فبلعهم البحر وهم يصرخون... كيف لاحقتنا الرصاصات الغادرة فأصابت أخي علياً أما عروسه زينب إصابة قاتلة ،فخضبت العروس حناءها بالدم وهي تندب زوجها ،فيقول لها موصيا ..لا تبكوا علي ،بل إتركوني أبكي عليكم الثواني الباقية.. كيف أوينا إلى خيام أمواتا برداء أحياء..ودفنا أخي نلفه بالحسد على ما ناله من راحة إختصرت عليه سني العذاب ... أبي وأمي وأعمامي وكل أهل حي العجمي وحارة علي بيك تمزقوا وتناثرت أشلاؤهم خيما...... أفاق الحاج عبد الله من الأسترسال بذكرياته المُرّةِ على تهادي القارب نحو رمال الشاطىء....فرسا القارب...وأخلوا مريضهم وحملوه وساروا به نحو المخيم ملتفين على الحاجز .
*******************************
أسرع الجيران لاستقباله، فأجهش بالبكاء وهو يرى بقايا منزله المتواضع وقد أضحى ركاما، وكيف سوي هذا الحي من المخيم بالارض بفعل جرافات الاحتلال،فنبتت بأرضه نكبة جديدة ،وبقي ينتحب حتى إبتلت لحيته بالدموع...قال له الجيران ... وحد الله يا حاج ..
أجاب من بين الشقهات الباكية :- لا إله إلا الله ..ضربتين بالراس يا أبو جمال... وكأن المأساة ولدت من جديد ..
لعلعل الرصاص ... فإنحبست الأنفاس، وقال الحضور... الله يستر!!
دقائق علت مكبرات الصوت تزف الخبر كالمعتاد ....أحمد الطفل الذي ذهب يلعب باكرته قرب السياج تجندل ، فتراكض الناس ....إنفض الجميع من حول الحاج عبدالله يهرولون ألى بيت أبو احمد وتركوه وحيدا مع جراحاته يرثي نكبته التي دخلت النصف الثاني من القرن.